حتى لا يكون الإعلام المستقل خرافة عراقية أخرى

.

المقاله تحت باب  في السياسة
في 
16/10/2010 06:00 AM
GMT



على الرغم من البروباغاندا السياسية عالية الصوت عن "التحول الديمقراطي" في العراق بعد نيسان 2003، إلا أن وقائع السنوات السبع الماضية تثبت، يوما بعد يوم، أننا لم نكن إلا بإزاء خرافات ديمقراطية شكلية لا تحيل إلى أي محتوى، يسوقها البعض، ويصدقها البعض، ولكنها تظل خرافات لا علاقة لها بالحقيقة.

ثمة نمطان رئيسان من الإعلام في العراق:

الاول: الإعلام الرسمي ممثلا بشبكة الإعلام العراقية. فقد كانت هناك محاولة لاستنساخ بعض صيغ العلاقات بين مؤسسات الدولة، وتحديدا العلاقة بين ما أطلق عليها الهيئات المستقلة والحكومة، في بعض الأوامر التي أصدرها الحاكم بأمره بول بريمر في مرحلة سلطة الائتلاف المؤقتة. ولكن هذه الاستقلالية "المفترضة" تم وأدها مبكرا، وبدا واضحا أن البنى الذهنية للنخب السياسية العراقية لا تتسق معها. هكذا انتهينا إلى احتكار السلطة التنفيذية لهذه الهيئات تدريجيا. ومن هذه المؤسسات الهيئة العامة للبث والإرسال (شبكة الإعلام العراقي) التي اسست بالأمر رقم 66.

فبعد تشكيل الحكومة العراقية المؤقتة برئاسة د. أياد علاوي، تم إلحاقها، وهي المستقلة بموجب القانون، بمجلس الوزراء، وقام بتعيين المدير العام لقناة "العراقية". وقد تكرس هذا الأمر مع حكومة د. الجعفري، ثم حكومة المالكي. حيث تم رفع يد مجلس النواب تماما عن هذه المؤسسة. فالأمر رقم 66، الذي لا يزال يمثل الإطار التنظيمي لعمل المؤسسة يشترط "الحصول على موافقة ثلثي أصوات أعضاء الهيئة التشريعية الوطنية" بعد قيام رئيس الوزراء بتعيين رئيس الهيئة وأعضاء مجلس الحكام. ولكن هذا الأمر لم يتم مطلقا. فالتعيين الأخير لمدير شبكة الإعلام العراقية وأعضاء مجلس الأمناء، وليس مجلس الحكام كما ينص قانونها، والذي تم في نهاية شباط 2009 ، لم يتم إبلاغ مجلس النواب به! كما أن القسم5 من الأمر 66 والمتعلق بسلطة إنهاء الخدمة ينص على أن: "لا يجوز صرف أعضاء مجلس الحكام من مناصبهم إلا بناء على موافقة ثلثي أعضاء الجهة المكلفة بالسلطات التشريعية الوطنية" أي مجلس النواب. وهذا ما تم مخالفته أيضا، فقرار صرف المدير العام السابق وحل مجلس الأمناء اتخذ في 25/11/2008 بقرار صادر عن رئيس الوزراء شخصيا، ومن دون أي تدخل من مجلس النواب في مخالفة صريحة مرة أخرى لقانون الهيئة/شبكة الإعلام. كما نص الأمر 66 على أن يكون أعضاء مجلس الحكام/الأمناء "من أفراد المجتمع المدني العراقي الذين يمثلون شرائح جمهور المشاهدين". وهذا ما لم يتم الالتزام به عند تعيين المجلس الجديد. فأعضاء المجلس جميعهم صحفيون وإعلاميون محترفون! هذا طبعا بعيدا عن سؤال سفسطائي عن معيار الاستقلالية التي يتمتع بها الأعضاء الجدد (بعض أعضاء مجلس الامناء، وبينهم رئيسه، كانوا مرشحين للانتخابات ضمن قواءم الكتل السياسية، وأحدهم فاز بمقعد في البرلمان ضمن ائتلاف السبد رئيس الوزراء). وهكذا تحول "إعلام الدولة" الذي حاول بريمر استنساخه عن تجربة الـ BBC ، إلى إعلام حكومي بامتياز.

النمط الثاني: الإعلام المملوك لأحزاب او شخصيات سياسية، وهذا النمط هو "إعلام" غير مستقل بالتعريف! وهو الأعلى صوتا، ومساحة، وتمويلا. ولكنه في النهاية إعلام موجه وأحادي. وغالبا ما يتعارض تعارضا شديدا مع المبدأ الأساسي للإعلام وهو الحصول على المعلومات ونشرها. إذ يتم التعامل مع المعلومة ونشرها بوصفها سلاحا سياسيا في الدعاية السياسية للحزب او الشخص من جهة (الإخفاء والإنكار والهجوم المضاد) من جهة، أو سلاحا للتسقيط السياسي للآخرين من جهة اخرى. ومن ثم فقد فشل هذا الإعلام فشلا ذريعا في تقديم نموذج إعلامي حقيقي.

ولكن ثمة نمطا ثالثا يحاول ان يجد له موطئ قدم في هذا المشهد، ألا وهو الإعلام المستقل. أي الإعلام الذي ينطلق من مقدمات إعلامية بحت، بعيدا عن أي استقطاب، ولا يعترف إلا بالمحددات المهنية في نقله للمعلومة للجمهور، وفي إعتماد التعددية في مقالات الرأي. ولكن العاملين الحاسمين في هذه المعادلة الصعبة هو مدى التدخل الحكومي، ومعادلة "التمويل" من خلال استخدام سلاح الإعلانات. الأول ما زال محدودا ولكنه قائم بالقوة، ويمكن اللجوء اليه عند الحاجة (إغلاق مكاتب الجزيرة والشرقية، الدعاوى القضائية ضد الصحفيين). ومن ثم لسنا بإزاء ايمان حقيقي بالتعددية وحرية الإعلام وإنما بإزاء ضعف السلطة، وليس الدولة، وعدم قدرتها حتى الآن على احتكار القوة بسسب من طبيعة الصراع القائم في العراق (لنتذكر أن مكتب الجزيرة في أربيل ظل قائما). أما عامل التمويل فهو السلاح الاكثر نجاعة حتى اللحظة، وتستخدمه السلطة، من خلال الإعلانات الحكومية الدسمة، أو تستخدمه القوى السياسية عبر لوبيات المصالح السياسية/الاقتصادية (آسيا سيل نموذجا). ولا يمكن إصلاح هذه العلاقة غير السوية إلا بافتراض إمكانية قيام نشاط افتصادي خاص بعيدا عن السياسيين والاحزاب، أو إمكانية قيام مؤسسات صحفية قادرة على تطوير بنيتها الاقتصادية. وكلا العاملين ما زالا بعيدين عمليا على المدى المنظور، في ظل التخبط الاقتصادي، والفساد، وسوء الإدارة. وفي ظل ضعف البنية المؤسسية للإعلام، وضعف المهنية، وعزوف القراء، وضعف التوزيع، ومحدودية الأسعار، والمنافسة غير المتكافئة... الخ

انتهت دراسة أصدرها مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان بعنوان: "الإعلام في العالم العربي بين التحرير وإعادة إنتاج الهيمنة"، إلى أن ثورة المعلومات وانتشار الإعلام المرئي والمسموع الذي شهده العالم العربي في السنوات الاخيرة، لم يترتب عليها إحداث قطيعة مع إرث الهيمنة والاحتكار وعلى حق الإعلاميين في النفاذ إلى المعلومات وبثها. ومن ثم تضاءلت إلى حد كبير فرص الانتقال إلى إعلام تعددي حر ومستقل كما تعرفه المجتمعات الديمقراطية. وأعتقد أن هذا الاستنتاج يصدق تماما على الإعلام المقروء أيضا في العراق.

إن الضمانة الوحيدة للديمقراطية هي الإعلام الحر والمستقل، فهل نعي الدرس.